•  

    كنت خارجا من صلاة الجمعة فجاءني صديق حائر يلومني على فرحتي بالدستور الجديد وسألني : مالكم قد فرحتم بدستوركم العلماني الكُفري المعادي للإسلام ؟

     فسألته : لماذا تعتبره علمانيا كفريا معاديا للإسلام ؟؟

    قال : لأن فيه الفصل السادس ؟؟

    سألته : هل قرأت الفصل السادس قبل التعديل أم بعده ؟؟

    فتلعثم ولم يجد جوابا سألته : هل قرأت التوطئة ؟؟

    قال :لا

    أردفته بسؤال آخر : هل قرأت الفصل الأول من الدستور ؟؟

    قال : أعرفه ..هذا الذي وضعه بورقيبة في الدستور السابق

    سألته : ماذا يعني الفصل الأول حسب وجهة نظرك ؟؟

    قال : يعني انه لم يحكّم الشريعة ووجودُه كعدمه

    سألته : أيهما أكبر وأشمل وأعم : الإسلام أم الشريعة ؟؟

    قال : الإسلام طبعا

    قلت له : لقد أقررت على نفسك بأن الدستور الجديد قد اعترف بأن الإسلام دين الدولة والإسلام أعم وأشمل من الشريعة

    قال : ولكن هذا الفصل موجود منذ خمسين سنة ولم يحمِ الإسلام فلماذا أبقيتم عليه ؟؟

    أجبته : في السابق لم تكن السلطة الممسكة بالحكم ترغب في تفعيله أما اليوم فنحن متمسكون بتفعيله ولن يصدر قانون في المستقبل إلا إذا وافق الإسلام

    قال : وما الذي يضمن ذلك ؟؟

    أجبته : توجد عدة ضمانات من بينها:

    أن تُنشأ محكمة دستورية يُرجع إليها لمراقبة أو إبطال كل قانون مخالف للفصل الأول

    أن تفوز النهضة وأحزاب وفية للإسلام في الانتخابات القادمة

    أن تصبح المطالبة بقوانين متوافقة مع الإسلام مطلبا شعبيا لا نخبويا وأن ينتشر الوعي في المجتمع بأن الشريعة والإسلام خير للجميع

    عندها فقط نكون قد ضمنا أن لا تُغلب كتلة النهضة وحلفاؤها بسبب قلة عدد نوابهم ونضمن أن تكون لديها القدرة على تمرير قوانين تراعي الدين وتخدم مصالح الناس

    عاد وسألني : ومن قال إن سن القوانين من الإسلام ؟؟ أليست هذه قوانين وضعية ؟؟

    أجبته : القوانين الوضعية ليست كلها ضد الإسلام وشريعة رب العالمين ، خذ مثالا : الإسلام لا يمنع سن قانون ينظم المرور في الطرقات ويحدد السرعة القصوى وشروط سحب رخصة السياقة الخ.. مادام ذلك فيه تنظيم لمصالح المسلمين و لا يتعارض مع نص صريح في الدين

     قال : ولكنكم تقبلون بقوانين مستوردة من فرنسا وبريطانيا وبلدان الكفر وتدخلونها إلى تونس وتحكمونها بعيدا عن الشريعة

    أجبته : وهل قانون الطرقات الذي كنت أتحدث عنه جاءنا في متون الأحاديث وكتب التفسير ؟؟

     طبعا جاءنا من الغرب الذي اخترع السيارات ووضع لها قانونا تسير عليه وكل بلدان العالم أخذته وكيّفته بحسب بيئتها ومزاجها وخصوصيات شعبها ونحن سنسعى إن شاء الله أن لا يصدر قانون في تونس إلا إذا كان موافقا لدين الله ، فلم الخوف ؟؟

    سألني : ولكنك لم تجبني عن استيراد القوانين الأخرى مثل تلك التي تبيح زواج الشواذ والعياذ بالله وإباحة الربا وغيرها

    أجبته : لو كان لدي جهاز تسجيل لأسمعتُك ردي وهو : لن يصدر قانون في تونس إلا إذا كان موافقا لدين الله

    قال : بصراحة أنا مرتاب منكم ولقد عودتمونا أنكم تعزمون على الشيء وتتراجعون عنه

    قلت : لو رأيتنا تراجعنا عن شيء فاعلم أننا ما تراجعنا منه إلا تقديرا للمصلحة وموازنة بين مصلحتين أو مفسدتين وأعطيك مثالا : لو خُيّرتَ بين الخروج من السلطة مقابل إنهاء الدستور وتولّي حكومة مستقلة وهدوء البلاد وبين البقاء فيها وانسحاب بقية نواب المجلس وتعطل الدستور وارتفاع نُذُر المواجهة والفتنة بين أبناء الشعب الواحد ، فماذا تختار ؟؟

    سكت ثم ردّ : ولكن الشعب معكم وتستطيعون إصدار دستور بالأغلبية التي لديكم دون الحاجة إلى هؤلاء العلمانيين المدافعين عن الإلحاد

    رددت عليه : وهل تضمن لنا أن يكون هذا الدستور دستورا لكل التونسيين أم سيقولون عنه دستور النهضة ؟؟

    قال : سيقولون دستور النهضة ولكن هم أقصوا أنفسهم ولستم أنتم من أقصاهم

    قلت : حتى ولو أقصوا أنفسهم لأسباب يطول شرحها فنحن لم نكن مستعدين لتقديم دستور نخطه بمعزل عن خصومنا حتى لا يقولوا انه دستور النهضة (تبلّو وتشرب ماه) .. نحن جئنا لتوحيد الشعب وليس لتفريقه من جديد .

    قال : والله حيّرتني ، من جهة تقول أنكم لن تمرّروا قوانين مخالفة لدين الله ، ومن جهة ثانية تقول إنكم تقبلون بمشاركة خصومكم في كتابة الدستور .. هذا محيّر فعلا

    أجبته : ليس محيّرا بالمرة بل يدخل ضمن حكمة النهضة وفهمها للإسلام ، فهي خيرت وحدة الشعب ودرء الفتنة والتقاتل عنه مقابل التنازل عن أشياء بسيطة لا تساوي شيئا ذا بال أمام دماء المسلمين .. لقد تنازلنا عن التنصيص على الشريعة وقبلنا التنصيص على الإسلام وهذا فخّ حفرته لنا المعارضة ولكنها وقعت فيه بعد أن تبين لنا أن الفصل الأول بصيغته الحالية هو أقوى وأشمل وأكثر حجية من مجرد التنصيص على الشريعة فقط. أرأيت كيف مرّرنا فصلا دون الحاجة إلى استنفار الناس وتهييج مشاعر الحمية وتكفير الناس (بوه على خوه) ؟؟

    قال : ها قد جئتها برجلك : كيف تقبلون في الفصل السادس بتجريم التكفير في الدستور ؟؟

    أجبت : أولا قبل أن نكفر الناس يجب علينا هدايتهم والترفق بهم وإرشادهم إلى دينهم لأنهم عاشوا عقودا طويلة في علاقة مشوّشة معه ثانيا من قال لك أن الفصل بقي على ما هو عليه ؟؟ لقد تم تعديله من : (تحجير التكفير) إلى (منع دعوات التكفير) والفرق بين الصيغتين واضح جدا ففي الصيغة الأولى كان التحجير شاملا كل العلماء والفقهاء حتى ولو كانوا في حلقة علم شرعي أما الصيغة الثانية فقد اختصت بمنع التكفير غير المنضبط الذي تتورط فيه بعض جماعات الغلو التي ليس لها العلم ولا الأهلية لتكفير الناس وإخراجهم من ملة الإسلام واستحلال دمائهم

    قال : ولكنكم رضختم للعلمانيين في هذا الفصل؟؟

    أجبت: في صيغته الحالية غير صحيح لأننا بالفعل ضد كل من يقف لكي يكفر الناس وهو بلا علم ولا ثقافة ولا تحصيل في العلوم الشرعية وقد أردنا أن يُحصر موضوع التكفير في يد العلماء ومنع غيرهم من التورط في ذلك لأن التكفير وإن كان من أحكام الشرع إلا أن تَرْكه في أيدي أشباه العلماء والمتنطّعين قاد إلى كوارث ويكفي أن تنظر في خريطة العالم الإسلامي لتدرك مغزى كلامي

    قال : ظننتكم ذوي غيرة على دينكم وأشداء على الكفار كما قال القرآن

    قلت : من الكفار الذين تقصد ؟؟

    قال : بعض نواب المجلس الذين يريدون محاربة الإسلام ومنع التنصيص عليه في الدستور

    قلت : هل قالوا إنهم كفار أم مسلمون ؟؟؟

    قال : قالوا إنهم مسلمون ولكننا نعرف نفاقهم

    قلت : ماداموا قد قالوا إنهم مسلمون بألسنتهم فلسنا مكلفين بالشق عن قلوبهم للتثبت هل قالوها عن قناعة أم عن تقيّة وما داموا يُقِـرُّون بأنهم مسلمون فليس من واجبنا نفي صفة الإسلام عنهم وحتى إن بدا من بعضهم اعتراض على بعض الأمور المتصلة بالإسلام فإننا نستمع إليهم بانتباه فقد يكون لهم حق في بعض ما يقولون وخاصة خوفهم من قيام دولة دينية

    قال : وما المانع في قيام دولة دينية ؟؟ هذه الدولة ستقوم رغم أنوفهم

    قلت : لا يوجد في الإسلام دولة دينية يقف فيها حاكم لكي يقول انه الناطق الرسمي باسم الرب وان من أطاعه دخل الجنة ومن خالفه الرأي طُرد منها .. الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون أقروا دولة مدنية يتمتع فيها المواطن بحريته وبحقوقه ومن بين هذه الحقوق نقد الحاكم والاعتراض عليه ومحاكمته إن لزم الأمر وقد حصل هذا فعلا وليس مجرد طوباوية وكلام مفكرين ينظّرون في أبراج عاجية

    قال : أنا لا أفهم لماذا كلما تحدثت مع واحد من النهضة ، حدثني عن الحرية ؟؟ ألهذه الدرجة أثرت فيكم سنوات السجن ؟؟

    أجبته : لقد دافعنا عن الحرية قبل السجون وأثناءها وبعدها وليس هذا جديدا في كلامنا لأننا نرى أن الإسلام لن ينتصر إلا بقوم متحررين من العبودية للدنيا وللحجر والشجر والبشر أما العبيد فلا ينفعون أنفسهم فضلا عن أن ينفعوا أمتهم ، والدستور الجديد جاء لكي يثبّت الحرية ويحميها وليس يقمعها ويضعها في يد (وليّ الأمر) يتصرف فيها على هواه

    قال : ولكن الحرية التي تنادون بها قد تقود البلاد إلى رؤية عبدةَ الشياطين يجاهرون بذلك دون اعتراض

    أجبت : وهل نسيت الفصل السادس الذي ينص على أن الدولة راعية للدين حامية للمقدسات ؟؟

    قال : مقدّسات من ؟؟

    أجبت : سبحان الله هل نسيت الفصل الأول أيضا ؟؟؟

    قال : بالله عليك ، من الآخر متى تُقام دولة الإسلام ؟؟ أجبني بكل صراحة

    أجبت : بصراحة ، لن تقام دولة الإسلام في الواقع إذا لم نُقمها في قلوبنا أولا ونعدّل بوصلة حياتنا عليها ، وحتى تتأكد من كلامي ، أنصحك بأن ترمي بعلبة السجائر التي في جيبك وأن تتوقف عن التدخين الذي عاهدتني من قبل مرارا وتكرارا على تطليقه ولكنك لم تلتزم بوعدك.

     

    كتبه أبو فاطمة الزهراء منقول من صفحة حركة النهضة بباب البحر - تونس العاصمة


    تعليقك